
في خضمّ عالم يموج بالمعلومات السريعة والمحتوى الرقمي العابر، قد يبدو السؤال "لماذا نقرأ؟" عتيقًا، وربما ساذجًا للبعض.
لكنه في جوهره سؤال وجودي عميق، يعيدنا إلى صميم إنسانيتنا، وإلى تلك العلاقة السحرية التي تنشأ بين وعي القارئ وروح الكاتب عبر جسر من الكلمات.
القراءة ليست مجرد فكٍّ لرموز مطبوعة، بل هي حوار مع الأجيال، وسفر عبر الزمان والمكان، وفعل مقاومة ضد السطحية والتنميط. إنها الرحلة التي نخوضها مع الكتب التي تعدنا بأننا لن نعود منها كما كنا.
فعل التلقي: حين يصبح القارئ شريكًا في الإبداع
قبل أن نبحر في أنواع الكتب التي تغيرنا، لا بد أن نتوقف عند مفهوم "التلقي". فالقراءة ليست عملية سلبية يتم فيها استيعاب المعلومات كملء وعاء فارغ. بل هي، كما رسّختها مدارس النقد الحديثة مثل "جمالية التلقي" (Reception Aesthetics)، عملية تفاعلية خلاقة يعيد فيها القارئ إنتاج النص بمعنى جديد في كل مرة. القارئ ليس مستهلكًا للنص، بل هو شريك في نسج دلالاته، مستدعيًا خبراته الشخصية، ومخزونه الثقافي، وأفق توقعاته.
هذا المفهوم ليس غريبًا على ثقافتنا العربية. ففي تراثنا النقدي والبلاغي، كان هناك وعي مبكر بأهمية "المتلقي" أو "السامع". نجد الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين" يولي اهتمامًا كبيرًا لحال المخاطَب وقدرته على الفهم والاستيعاب، مؤكدًا أن "لكل مقام مقال". كما أن الإمام عبد القاهر الجرجاني، في نظريته الثورية عن "النظم" في "دلائل الإعجاز"، كان يحلل الأثر الجمالي والنفسي الذي يتركه تركيب الجملة في نفس المتلقي، مما يجعله محور العملية البلاغية.
إذن، القراءة هي حوار خلاق، لقاء بين عالمين: عالم النص بعناصره وشخوصه وأفكاره، وعالم القارئ بأسئلته وهمومه وأحلامه. وفي نقطة التقاء هذين العالمين، تولد التجربة التحويلية، تلك اللحظة التي نشعر فيها أن الكتاب لا يكلمنا فحسب، بل يقرأنا ويكشف لنا ذواتنا.
كتب كبوصلة: كيف تعيد القراءة تشكيل وعينا؟
هناك كتب نقرأها للمتعة، وأخرى للمعرفة، ولكن أعظمها هي تلك التي تهزّ أركان وعينا وتوسع حدوده. يمكن لهذه الكتب أن تغير حياتنا بطرق شتى:
1. كتب توسّع الأفق وتكسر اليقين:
هناك نوع من الكتب يعمل كصدمة معرفية، يزعزع مسلماتنا ويجبرنا على إعادة النظر في كل ما كنا نؤمن به. هذه هي الكتب التي تقدم لنا رؤى جديدة للعالم، سواء كانت فلسفية، علمية، أو تاريخية. عندما يقرأ المرء "مقدمة" ابن خلدون، لا يقرأ تاريخًا فحسب، بل يكتشف منهجًا جديدًا في فهم صعود وهبوط الحضارات، ويُمنح أدوات لتحليل واقعه الاجتماعي والسياسي. وبالمثل، فإن قراءة أعمال كبار الفلاسفة كسقراط، أو ابن رشد، أو كانط، لا تزودنا بإجابات جاهزة، بل تغرس فينا فن طرح الأسئلة الصحيحة، وتدرب عقولنا على التفكير النقدي المستقل. إنها كتب تعلمنا "كيف نفكر" لا "بماذا نفكر".
2. كتب تبني الجسور نحو الآخر:
الأدب العظيم هو تمرين في التعاطف. حين نغوص في رواية، نحن "نسكن، مؤقتًا، جلد شخص آخر، وصوته، وروحه"، على حد تعبير الروائية جويس كارول أوتس. نعيش مآسي شخصيات ديستويفسكي، ونتجول في أزقة القاهرة مع نجيب محفوظ، ونبحر في عوالم "ألف ليلة وليلة" الساحرة التي ألهمت الأدب العالمي بأسره، من بورخيس إلى ماركيز. هذه التجربة تنقذنا من سجن "الأنا"، وتجعلنا ندرك أن التجربة الإنسانية، على تنوعها، واحدة في جوهرها. نفهم دوافع الآخر، ونتقاسم آلامه وأفراحه، فنصبح أكثر تسامحًا وأقل إصدارًا للأحكام.
3. كتب تكشف لنا ذواتنا:
قال الروائي الفرنسي مارسيل بروست: "في الحقيقة، كل قارئ هو، حين يقرأ، قارئ لنفسه. عمل الكاتب ليس سوى نوع من أداة بصرية يقدمها للقارئ لتمكينه من تمييز ما، لولا الكتاب، ربما لم يكن ليراه في نفسه". كثيرًا ما نصادف في كتاب ما فكرة أو شعورًا كان يجول في خاطرنا دون أن نجد الكلمات المناسبة للتعبير عنه. وفجأة، نجد الكاتب قد صاغه بدقة مذهلة، فنشعر بلحظة من الألفة العميقة والتنوير، ونصرخ في دواخلنا: "هذا أنا!". سواء كانت قصيدة لمحمود درويش تلامس جرحًا دفينًا، أو مقالة لمونتسكيو تحلل نزعة إنسانية نعرفها جيدًا، فإن هذه الكتب تعمل كمرآة، تساعدنا على فهم تعقيدات أرواحنا والتصالح معها.
القراءة كفعل وجودي: لماذا سنظل نقرأ؟
في نهاية المطاف، نحن نقرأ لأننا كائنات تبحث عن المعنى. نقرأ لنعرف أننا لسنا وحدنا في مخاوفنا وأسئلتنا الكبرى. نقرأ لنتصل بالحكمة الإنسانية المتراكمة عبر آلاف السنين، ولنستلهم من تجارب أولئك الذين عاشوا وحلموا وكافحوا قبلنا. نقرأ لنشحذ عقولنا، ونهذب أرواحنا، ونغذي خيالنا الذي بدونه تضيق الحياة وتفقد ألوانها.
الكتاب، كما يقول الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، "امتداد للذاكرة والخيال". إنه الأداة التي تسمح لنا بأن نعيش ألف حياة في حياة واحدة. في كل صفحة نطويها، وفي كل عالم ندخله، نكتشف جزءًا جديدًا من العالم ومن أنفسنا. إنها رحلة لا تنتهي، ومغامرة متجددة، ووعد دائم بأن ما بعد الكتاب ليس كما قبله. فلماذا نقرأ؟ لأننا في بحثنا عن الكتب التي تغير حياتنا، نكتشف أننا نحن من يتغير.
وفي الختام، فإن القراءة فعل وعيٍ يفتح العقول ويصقل الذائقة ويمنح الإنسان القدرة على الإبداع والتغيير. ومن هنا تنطلق دار مضامين لخدمات النشر في رسالتها؛ إذ لا تكتفي بنشر الكتب، بل تسعى لترسيخ قيمة الثقافة والارتقاء بالوعي وإبراز دور الكلمة في صناعة المستقبل. فكما تمنحنا القراءة القوة لنفهم العالم، تسعى مضامين إلى أن تكون الجسر الذي يصل القارئ بكل ما هو أصيل ومُلهم، لتظل الثقافة هي البوصلة التي تقودنا نحو غدٍ أكثر إشراقًا.